آخر تحديث: الاثنين 9 تشرين الثاني 2020 - 02:16 PM إتصل بنا . خريطة الموقع . ابحث:




أرشيف

أخبار التجدد حوار مختارات أخبار يومية

مداخلة د. أنطوان حداد في ندوة مناقشة كتاب
"ماذا بدّلت الحرب في لبنان"
(معرض الكتاب العربي والدولي، البيال – بيروت، 2/12/2016)

الجمعة 2 كانون الأول 2016

ماذا بدلت الحرب في لبنان؟
سؤال مفتوح لجرح مفتوح ما زال ينزف، وان ببطء وتقطع، او بالاحرى لجرح بليغ "اقفل على زغل" (كما يقال بالعامية)، وما زالت مفاعيله حية تتناسل داخل الجسد اللبناني في صراع لم يتوقف بين نزعة التفكك والتشظي والاستغراق في توكيد متجدد للهويات الفرعية، وآخرها الهوية المذهبية، اللاغية او المخضعة او المهمشة لهويات الآخرين على وقع الاستنجاد او الانخراط في تحولات الاقليم وانقلاباته، وبين نزعة التضمين والتضميد التي تريد ان ترى في تلك الهويات الفرعية ازهارا متنوعة في حديقة غناء باسمة ترنو الى التوليف في بوتقة المواطنة الجامعة والدولة الرشيدة المؤطرة لتلك المواطنة. 
وفي ضوء الجرح المفتوح هذا يصبح السؤال الاصح او الاشمل: ماذا بدلت الحرب وبناتها في لبنان؟ وبنات الحرب في لبنان هي مرحلة الوصاية السورية (1990-2005) ومرحلة الصعود الايراني (حرب تموز 2006 – حتى اليوم)، مرورا بمحطات/لحظات وجيزة كنا نرى فيها اما ضوء خافتا في نهاية النفق (كما في 2005) او حفرة عميقة نحو جحيم عودة الحرب (كما في 7 أيار 2008) او منزلقا نحو مجهول الحرب السورية (كما في انخراط حزب الله في حرب سوريا من بوابة مدينة القصير).
وعليه يصبح ربما السؤال "ماذا بدلت الحرب في لبنان ... وما زالت تبدل!"، باعتبار ان جزء" من تلك التبدلات ما زال قيد الصيرورة، وجزء من التناقضات (لا بل التناقضات الاساسية) لم تحسم بعد، وجزء من النتائج لم تظهر بعد، وجزء مما يعتبره البعض انجازات قد تعرض (او يتعرض) للانتكاس. اي ما زلنا في غمار عملية التبدل تلك التي لم يكتب منها بحبر نهائي سوى فصول قليلة بعد.
وكتّاب هذا الكتاب، بغالبيتهم، لم يشذوا عن قاعدة الفهم هذه. حتى ان البعض منهم لم يتطرق الى الحرب بمعناها المتداول اي حقبة 1975-1990 كمحور اساسي للبحث، كما اراد ربما معد الكتاب والمشرف عليه الشاعر حمزة عبود، مثل الصديقة والزميلة منى فياض التي لم تأت في نصها الرائع المعنون "طائر الفينيق – الاوطان التي نعيد اختراعها وصيانتها"، ولو حتى بالشكل (على ما اعتقد)، لم تأت اذن على ذكر تلك الحقبة. وحده تقريبا حمزة عبود الزم نفسه بتلك القاعدة، فاتى مقاله ضمن قالب زمني صارم في اطار معادلة "ما قبل" و"ما بعد"، أي ما قبل الحرب وما بعد الحرب. ومع هذا النص ابدأ لأنني افترضت ان صاحبه هو الذي يرسم الاطار المنهجي للبحث.
انطباعي الاولي ان اللوحة التي يعرضها صديقنا حمزة قد رسمت بالاسود والابيض. ما قبل 1975 هو عصر النهضة وما بعد هو زمن الانحطاط! "ما قبل" يستحق تسع صفحات من الوصف التحليلي الدقيق والمعمق، و"ما بعد" كتب على عجلة ضمن صفحتين فقط ابرز ما فيهما ان "الحرب الاهلية قلصت دور لبنان الثقافي الى حد كبير"، وان "توقف العنف لا يكفي وحده لاستعادة هذا الدور"، وانه "ينبغي العمل على توفير الشروط الملائمة لتعزيز واستعادة هذا الدور"، من دون ذكر تلك الشروط او الغوص في كيفية توفيرها.
الرد على ثنائية أبيض/أسود، أو ثنائية "ما قبل وما بعد" الصارمة، جاء ضمنا وربما من غير قصد في نص عبيدو باشا، الذي أقر بأنني تعذبت في متابعة قفزاته الانشائية وكلماته المتقطعة والمتقاطعة. صحيح ان عبيدو باشا أقام المقارنة بين ما قبل وما بعد، صحيح انه منحاز قطعا لما قبل، لكنه قدم لنا عرضا تفصيليا كاملا لعالم مسرح ما بعد الحرب بكل سماته وابطاله ومحطاته وزلاته وصولاته وجولاته. هو عرض يتيح للمتذوقين غير المخصتين بالمسرح (وانا منهم) الاطلاع بشكل واف على واقع هذا القطاع واوضاعه وتحدياته.
الرد الضمني على تلك الثنائية الصارمة نجده أيضا وخصوصا في مقالة سمير قصير، "بيروت بين الحاضر والماضي"، التي يستحق حمزة عبود الشكر والثناء على اعادة نشرها واختيارها من الكتاب المرجعي لسمير "تاريخ بيروت" الصادر أصلا بالفرنسية. تلك المقالة لسمير تبهرك بالصورة الساحرة المليئة بالضجيج والالوان التي تقدمها عن بيروت، بيروت المنبعثة من تحت الرماد وتجاهد على كل الجبهات وفي كل الميادين لاستعادة الحياة والدور. والالوان الزاهية التي يخلعها سمير على حوليات بيروت ما بعد الحرب سواء في الصحافة او المسرح او التلفزيون او الجامعة او السياحة او الترفيه او قطاع المال او اوضاع الاقتصاد والتضخم والفقر وغيره وغيره من مقومات المدينة، لا تغفل ابدا مآلات وتقلبات هذه او تلك من القطاعات التي تشكل روح المدينة وعلة وجودها، ولا تهمل اشكالية مشروع اعادة الاعمار واخفاقه في اعادة نبض الاختلاط الوظيفي بين الفئات والطبقات الاجتماعية الى وسط المدينة.
التفاؤل القلق لسمير قصير وشجاعته الخالصة التي دفع حياته ثمنا غاليا لتعلقه به، وارادويته المطلقة التي لا تشبه بشيء جذوره الماركسية، تجد سمات منها في نص منى فياض التي تصر ان الاوطان ليست ميراثا او تركة بل "اختراع" نتخيله ونصممه ونبتدع الاساطير الجامعة لتأسيسه واعادة احيائه... ونخسره بالطبع ما لم نقم بصيانته. هذا ما يميز الاوطان عن الامكنة والمواطنين الشركاء-الاحرار عن الرعايا. وانا الاقيها بالطبع في ذلك. بالنسبة الى منى، لا مشكلة في تعدد الهويات ولا في تراكمها. البراعة في توليف هذه الهويات وادارتها.
في الكتاب ايضا نصوص وشهادات معبرة عن تجارب مباشرة في مداعبة الحرب وتحدي اسيادها ولاعبيها، اخص منها مقالة انطوان سيف "1987: سنة اكتشفت الحرب الاهلية ان لا اهل لها" حول دور المجتمع المدني عندما ينتفض ويقول لا لصفاقة الطبقة السياسية والميليشات المتحاربة والمتواطئة في الوقت عينه. كذلك اتوقف عند الدراسة التفصيلية والموثقة لاحوال (لا بل اهوال) الجامعة اللبنانية وما بدلت فيها الحرب وما بعد الحرب، وما زالت تبدل، وكنموذج لاجتياح الزبائنية السياسية والفساد المنظم لمؤسسات الدولة. كذلك دراسة فهمية شرف الدين عن تأثير الحرب على العلاقة بين الاسرة والفرد وعلى المرأة خصوصا، مع اضاءة خاصة على كيفية انتقال جزء من السلطة من الوالدين داخل الاسرة الى الحزب او المنظمة، وعلى استفادة الفتيات من تفريع الجامعات كنتيجة للحرب وارتفاع درجة انخراط المرأة في سوق العمل.
وداد حلواني تعبر في خاتمة الكتاب عن الجرح المفتوح الذي لم يندمل، جرح المفقودين الذين لا يعرف اهلهم وسيلة لانهاء الحداد الطويل عليهم، يلاقيها المقاتل السابق فؤاد الديراني الذي استخلص دروس الحرب وعبرها وقرر ان لا شيء يستحق ان نقتل او نقتل من اجله، وان لا طائل من العنف وان لا ثمن يدفع ابخس من ثمن الحوار وان طال عقودا.
اعود الى فكرة الدولة ومركزية الدولة في اقامة وحماية الانتظام العام، فضلا عن السلم الاهلي. وهنا احيلكم الى نص محمد علي مقلد وعنوانه "كانت حربا على الدولة" (والمكتوب يقرأ من عنوانه). هو النص الاول في هذا الكتاب من حيث الترتيب، ولعله ايضا النص الأطول والاغنى، يعالج عددا كبيرا من الاشكاليات والمفاهيم، من ارتباط فكرة الدولة عضويا بمصطلح الوطن، الى استناد الدولة الحديثة على فكرة القانون، الى ضرورة احتكار الدولة لاستخدام العنف المقونن، الى فكرة ان الدستور اللبناني هو دستور علماني فيما النظام السياسي هو نظام طائفي، الى ان الدولة النظرية لم تصبح دولة فعلية بعد، وهي مشوبة بنظام الوراثة السياسية والمحاصصة واستعانة التنظيمات الطائفية السياسية (وليس المجموعات اي الطوائف بالجملة) بالخارج على الداخل، الى ضعف الفصل بين السلطات. وان اوافقه اياها بالاجمال واقدر فيه خصوصا تلك الشجاعة الادبية في تكريس المراجعة النقدية لتجربة اليسار اللبناني مع الحرب في لبنان. علما انه ليس وحيدا في هذا المجال، فقد سبقه ايضا بكل شجاعة اعلام وقادة رأي مثل محسن ابراهيم وجورج حاوي.
ما لا اوافقه اياه هو الافراط في جلد الذات. صحيح ان اليسار ارتكب اخطاء بالجملة ومنها اخطاء استراتيجية ومميتة، انما من المبالغة القول ان اليسار هو المذنب الاول في جريمة محاولة اغتيال الدولة في لبنان. اهل النظام على ضفتي الصراع، الضفة الطائفية المسيحية والضفة الاسلامية، تفوقوا بأشواط على اهل اليسار في جريمة الاغتيال تلك. لكنني اعذره في ذلك. فهو مهجوس بالدولة وبفكرة الدولة وبمركزية هذه الفكرة. وهذه ميزة وليست نقيصة.
أختم بالتحية الى كل من ساهم في انتاج هذا العمل، حمزة عبود وزملائه، والناشر والجهات الممولة والداعمة، فهو حتما يغني المكتبة اللبنانية والعربية بالكثير من الدروس والعبر الاخرى التي لم يتسنى لي تعدادها.

 




إطبع     أرسل إلى صديق


عودة إلى أرشيف أخبار التجدد       عودة إلى الأعلى


2024 حركة التجدد الديمقراطي. جميع الحقوق محفوظة. Best Viewed in IE7+, FF1+, Opr7 تصميم: