الشعوب التي لا تُحاسب شعوب تعيش شيخوخة دائمة - فؤاد ابو زيد (الديار)
الاثنين 14 كانون الأول 2009
ليس صحيحاً ان هناك تعريفاً واحداً لمفهوم السياسة، كأن يختصره البعض بالقول ان السياسة هي فن الممكن، وليس صحيحاً ايضا ان ممارسة السياسة هي ذاتها التي تتبع في كل بلد، لان السياسة تختلف بين بلد وآخر ونظام واخر، فممارسة السياسة في الدول التي وصلت الى القمة في مفهوم العمل السياسي، مثل معظم الدول الاسكندنافية، هي ارقى وانظف واكثر شفافية حتى من الدول المعروفة بنظامها الديموقراطي مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا واسبانيا وغيرها من الدول الاخرى، وبطبيعة الحال لا تجوز المقارنة بين جميع هذه الدول، وبين تلك التي تدعي وتفاخر بأنها دول ديموقراطية، وتمارس السياسة طبقاً للنظام الديموقراطي البرلماني الحر، واذا اردنا ان نضيق المساحة الجغرافية لانتشار الديموقراطية في العالم، ونحصرها في مساحة العالم العربي، نجد ان هناك دولتين عربيتين فقط تمارسان نظاما يشبه الى حد ما النظام الديموقراطي هما لبنان في الدرجة الاولى، والكويت في بعض جوانبه، انما ممارسة السياسة في هذين البلدين وفي دول العالم العربي فما تزال مع الاسف اسيرة الوصف الذي اطلقه الرئيس سليم الحص على الوضع السياسي في لبنان، حين قال : «في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديموقراطية».
ويحسن هنا ان نضيف، ان في لبنان ايضا القليل القليل من احترام القوانين والدستور، واحترام الشعب وذاكرته.
باستثناء قلة قليلة جداً من السياسيين الذين يتمسكون بمبادئهم وثوابتهم ومواقفهم، مهما دفعوا من اثمان بسبب هذا التمسك، حتى ولو وصل الثمن الى الاستشهاد وبذل الدم، وامس احيينا ذكرى استشهاد كبيرين من كبار اهل الكلمة والسيف والحرية، والوطنية، هما جبران تويني واللواء فرنسوا الحاج، رفضا الخضوع للجزارين والجاهليين، وتمسكا بقيم الشرف والتضحية والوطنية بعيدا من اي حسابات شخصية.
هناك في المقابل سياسيون يشبهون دواليب الهواء، يدورون ويبرمون، وفق دوران الرياح الدولية والاقليمية والمحلية، دونما احترام لجمهورهم وناسهم وذاكرة الشعب، وينقلون بارودتهم من كتف لكتف، ومن خدمة جهة الى خدمة جهة اخرى، وذلك تحت حجة ان السياسة هي فن الممكن، وان السياسي الشاطر هو الذي يعرف متى يهبّ الهواء في دولابه، وان الغاية تبرر الوسيلة، ونسوا ان الحياة وقفة عز، وانها للاقوياء في نفوسهم، وان من يحب الموت دفاعاً عن الحق، يخافه خصمه.
هذه القيادات السياسية البهلوانية، حرة في مواقفها المتشقلبة، وحرة في «فلسفتها» الانهزامية، وحسابها على سلوكها وسياستها، يجب ان يكون عند الناس الذين آمنوا بخط هذه القيادات وبخطابها الذي حسبوه وطنيا، وليس سلّما للوصول الى مكان آخر وهدف آخر، اما اذا شاء هؤلاء ان يبقوا جزءا من الرأي العام البغل، كما وصفه الاديب الراحل سعيد تقي الدين، فهذا شأنهم وعلى اكتافهم تقع مسؤولية اخذ لبنان الى مستقبل مظلم، تحت شعار اخذه الى القوة والمجد والانتصار، الذي سبق ورفعه عشرات الزعماء والقادة في العالم، وكانت نتيجته ما حلّ بدولهم وشعوبهم وشعوب غيرهم في الحربين العالميتين الاولى والثانية، والحروب الصغيرة الاخرى التي رافقت وتلت وما تزال مستمرة.
* * *
الشعوب التي لا تحاسب قادتها وزعماءها وحكامها بالطرق الديموقراطية المتاحة، كمثل الانتخابات النيابية والبلدية والنقابية والطالبية، وتبقى تجدد لهم وتمدد لا فرق ان هم اخطأوا او اصابوا، هي شعوب لا يمكن ان تصل الى مصاف الشعوب الربيعية، اي الشعوب التي تتجدد مع كل ربيع مزهر ومشرق، بل تبقى تعيش خريفها وشتاءها في عز الشباب والانبعاث والخلق، فتدمن الشيخوخة، وتستوطن بها امراض الشيخوخة الكثيرة، فيهرم اللبناني، وهو ما زال على مقاعد الدراسة، لانه لا يريد ولا يستطيع ان يخرج من جلد التبعية والارتهان، فيستسهل الحلول الوسط التي تأكل من ارادته وتصميمه ورغبته بالتغيير الحقيقي، وليس التغيير الخطابي الشعبوي، الذي لا هدف له سوى خدمة الشخص، هذا «الشخص» الذي قدمه لنا الاخوين رحباني في مسرحيتهما التي تحمل الاسم ذاته، واظهراه كما هو على حقيقته.
في كل مرة نحتفل بذكرى شهيد، نزداد ثقة بأن دم الشهادة يزهر ابطالا ومقاومين ومؤمنين، وان الارض التي ارتوت بدماء الشهداء هي ارض مقدسة، واذا كان يقال إن ارض لبنان هي ارض قداسة، فلأنها رويت منذ مئات الاعوام بدم التضحية والصدق والحرية ونكران الذات، وهي ذاتها صفات جبران وفرنسوا ومن استشهد قبلهما ومعهما وبعدهما، ومن هم منذورون للشهادة من اجل لبنان.