آخر تحديث: الاثنين 9 تشرين الثاني 2020 - 02:16 PM إتصل بنا . خريطة الموقع . ابحث:




مختارات

دعوة لإلغاء الطائفية من اجل تثبيتها - سعد كيوان (الانباء)

الأربعاء 2 كانون الأول 2009

لا شك ان الطائفية هي الظاهرة الأسوأ من بين الظواهر البنوية التي تميز الصيغة اللبنانية وطبيعة تركيبة النظام اللبناني، والتي تعيق تطوره نحو نظام مدني أكثر عدالة وحداثة وأفضل تمثيلا. اذ لا نعتقد ان هناك أبشع من ان تقوم الدولة ومؤسساتها على أساس من التمييز بين مواطنيها بحسب انتمائهم الطائفي (أي الانتماء الى طائفة) وتتعامل معهم من هذا المنطلق، ويتم تصنيف الفرد والتعاطي معه على أساس هذا الانتماء وليس على أساس الكفاءة أو الجدارة.

طبعا، المقصود بالانتماء الطائفي هو ما يرثه الانسان بالولادة وما يدون به في سجلات قيد النفوس، وليس ايمانه او ما يختاره من معتقد ديني. وهذا أمر غير متوافر في هذا الشرق القائم على كم من الموروثات والتقاليد والغرائز والتعصب والعصبيات!

وها هو رئيس المجلس النيابي ورئيس "حركة أمل" نبيه بري ينبري اليوم مطالبا بالغاء "الطائفية السياسية"، وهذا أمر جيد ومطلب حق يسعى اليه كثيرون، وبالأخص من الجيل الجديد من الشباب، وكل تواق الى دولة مدنية، عادلة وديموقراطية . ألا اننا كنا نتوقع من زعيم "حركة أمل" وانسجاما مع نفسه ان يخطو الخطوة الأولى ويبادر الى الاعلان عن حل حركته...

إن مشكلة الطائفية، ليست جديدة بطبيعة الحال فهي تواكب التركيبة منذ نشأة لبنان الحديث، منذ ما بعد الاستقلال عام 1943 (وليس قبله). ولكن الصيغة التي رست عليها التركيبة عشية الاستقلال ولغاية منتصف الستينات تقريبا كانت تغلّب عناصر التعاقد والتعاضد لتعزيز الاستقلال والتنافس الديموقراطي (من عهد بشارة الخوري الى عهد فؤاد شهاب، وما امتاز به هذا الأخير تحديدا في مجال بناء الدولة والمؤسسات). وكانت بطبيعة الحال "السيبة الثلاثية" (ماروني في رئاسة الجمهورية وسني في رئاسة الحكومة وشيعي في رئاسة المجلس) راكبة والتوازن مثبت في وظائف الفئة الأولى، إلا ان العنصر الطائفي بقي غير نافرا وغير حاسما، وبقيت الحياة السياسية والخيارات السياسية قائمة بين نهجين لا طائفيين وكتلتين او كتل غير طائفية، بين الكتلة الدستورية والكتلة الوطنية بداية، ثم بين الشهابية وأخصامها...

وليس خافيا على أحد ما تعرضت له هذه الصيغة في بداية السبعينيات من هزات وخضات، إنتهت الى حروب ليس الآن وهنا مجال الخوض فيها وفي مسبباتها، وما ولّدته وفاقمته من تنابذ وعنف واقتتال طائفي على يد ميليشيات مسلحة رفعت شعارات معظمها برّاق وديماغوجي، الى ان جاء "اتفاق الطائف" ليضع حدا نهائيا للحرب والاقتتال ويعيد رسم صيغة وتوازن جديدين قائمين على المناصفة الاسلامية-المسيحية والشراكة والعيش معا عبر وضع حد للعد الطائفي-الديموغرافي، وأدخل صلاحيات أساسية على التركيبة من خلال إعادة توزيع الصلاحيات والمسؤوليات.

والأهم من كل ذلك انه نص على ضرورة "الغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية عبر تشكيل هيئة وطنية مهمتها دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بالغاء الطائفية" (كما جاء حرفيا في نص المادة 95 من الدستور)، ووضع مجموعة أسس لهذا الالغاء أو التجاوز التدريجي عبر انتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي بالتزامن مع انشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية، والغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة باستثناء وظائف الفئة الاولى فقط، واعتماد اللامركزية الادارية، وغيرها من الاجراءات...

هذا كله وغيره جاء في "الطائف"، ولكن ماذا حصل بهذا الاتفاق وب"الطائفية السياسية" خلال خمسة عشرة سنة من زمن الوصاية السورية، وماذا فعل أبطال تلك الحقبة ولماذا لم يطبقوا "الطائف"؟ يعجب بري كيف ان البعض يعترض على التوقيت ويتساءل اذا ما كانت ستة وستون سنة من عمر استقلال وعشرين سنة على "اتفاق الطائف" لا يكفوا للبدء بتطبيق او تشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية؟

ونسأل نحن بالمقابل من الذي منعه ومنعهم من ذلك؟ ألم يستبدلوه بنظام ال"ترويكا" أي نظام بدعة "الرؤوس الثلاثة" خارج الدستور (دستور "الطائف")، نظام تقاسم النفوذ والمنافع والمحاصصة الطائفية والمذهبية. نظام نقلنا من الطائفية الى الزبائنية الطائفية والمذهبية، أين منه المناخ الطائفي الذي ساد خلال سنوات الحرب، والى احتكار التمثيل المذهبي وإغراق الوزارات والمؤسسات والدوائر بموظفين ومحاسيب وأزلام "كفاءتهم" الوحيدة انهم ينتمون الى مذهب معين...

وفي السنوات الأخيرة علا منسوب النفخ في "البوق الطائفي" وابتزاز الدولة ومؤسساتها (من مقاطعة واستقالة واستعمال السلاح وتهديد السلم الأهلي) الى ان انتهينا الى حصر التمثيل المذهبي بطرف سياسي معين، وإشهار الحرم على كل من يجرؤ او يحاول الخروج على الطاعة!

في زمن الوصاية السورية كانت مسألة الغاء الطائفية السياسية تستخدم كفزاعة في وجه اللبنانيين، وفي هذا المجال يروي نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام انه في كل مرة يقف طرفا لبنانيا، وتحديدا مسيحيا، مطالبا بانسحاب الجيش السوري او اعادة تموضعه عملا بموجب "اتفاق الطائف" كان يتم اسكاته عبر التهويل بالغاء "الطائفية السياسية". وهذا ما حصل فعلا أكثر من مرة، الأولى أطلقها الوزير البعثي عبدالله الأمين عام 1995 ردا على ما جاء في نداء السينودوس من أجل لبنان. والثانية جاءت من قبل بري نفسه كمقدمة لا بد منها لاقرار قانون مدني للأحوال الشخصية اثر طرح الرئيس الراحل الياس الهراوي عام 1998 لمشروع الزواج المدني الاختياري. اما المرة الثالثة فأطلقها النائب القومي السوري مروان فارس إثر صدور نداء مجلس المطارنة الموارنة الشهير في 20 ايلول 2000 مطالبا بانسحاب القوات السورية...

وهل منْ كانت وما زالت علة وجوده طائفية مؤهل للمطالبة بالغائها؟

مع ذلك، اذا سلمنا جدلا ان دعوة بري الثانية جدية وصادقة، فهل ان الغوص فيها لا يتطلب مناخا ملائما من السلم والرخاء الداخلي والثقة بين مختلف مكونات الاجتماع اللبناني لتأمين اجماع يمهد للشروع في هذه الورشة؟ فاذا كان هذا المناخ غير متوفر في السابق فهل أصبح اليوم متوفرا؟ واذا كان الهدف كما يؤكد المقربون من رئيس "حركة أمل" هو فقط تشكيل الهيئة لأن عملها ربما يدوم عشرات السنين، فلماذا اذا اثارة الموضوع الآن بالتحديد طالما ان الظرف غير ملائم؟ أم ان وراء الأكمة ما وراءها؟

والغريب واللافت في آن ان الدعوة الى الغاء "الطائفية السياسية" تأتي في خضم السجال الدائر حول ازدواجية السلطة ومسألة سلاح "حزب الله" وحصرية امتلاكه او انضباطته تحت سلطة الدولة ومؤسساتها العسكرية الشرعية!

وهل لهذا السبب يتواصل السعي لفرط عقد قوى 14 آذار عبر محاولة الفصل بين مسلميها ومسيحييها، 14 آذار التي شكلت حالة لبنانية بامتياز وحققت اجماعا عابرا للطوائف، وكان بامكانه ان يمهد لاصلاح النظام وتطويره بعد استعادة السيادة؟

أم ان بري شهر دعوته في وجه مطالبة رئيس الجمهورية ميشال سليمان بتعديلات بهدف الموازنة بين الصلاحيات والمسؤوليات على مستوى الرئاسات الثلاث؟

أم انه تقصّد طرح الغاء "الطائفية السياسية" لأنه يدرك ان قسما كبيرا من اللبنانيينن، وخصوصا المسيحيين، لن يقبل بذلك في ظل هذا الشحن المذهبي المتشنج، وفي ظل امتلاك طرف لبناني مذهبي محدد، اي "حزب الله" سلاح سبق واستعمله ضد اللبنانيين الآخرين؟

عندها يصبح هدف دعوة بري ليس الغاء "الطائفية السياسية"... وانما الابقاء عليها وتثبيتها!


أرشيف    إطبع     أرسل إلى صديق     تعليق



عودة إلى مختارات       عودة إلى الأعلى


2024 حركة التجدد الديمقراطي. جميع الحقوق محفوظة. Best Viewed in IE7+, FF1+, Opr7 تصميم: